إذا كانت الفتاة قد نالت حظًا من التعليم النظامي.. إلى أن حصلت على شهادة جامعية.. فإنها بالطبع ستجيب: نعم قد أنهيت تعليمي!
لكن الإجابة الصحيحة أنّ التعليم لا ينتهي حتى تنتهي حياة المرء.. فإلى حديث العلم الممتع.. أدعوكِ ابنتي الحبيبة لنبحر سويًا عبر هذه السطور..
إذا كانت الفتاة قد نالت حظًا من التعليم النظامي.. إلى أن حصلت على شهادة جامعية.. فإنها بالطبع ستجيب: نعم قد أنهيت تعليمي!
لكن الإجابة الصحيحة أنّ التعليم لا ينتهي حتى تنتهي حياة المرء.. فإلى حديث العلم الممتع.. أدعوكِ ابنتي الحبيبة لنبحر سويًا عبر هذه السطور..
ابنتي الحبيبة.. زهرة:
إنّ المعرفة منحة ربانية، ونعمة إلهية: اختص الله تعالى بها الانسان، وميزه بها عن الحيوان، والفتاة أحد نوعي الإنسان المتطلِّع إلى هذه النعمة والمنحة الربانية، والمتعة المعرفية، فإن المعرفة من أعظم ملذات الدنيا، وقد أثبتت بعض الدراسات: أن كثيرًا من الإناث يهدفن إلى المعرفة متشوقات إليها أكثر من أي هدف آخر، خاصة وأن التعليم الجيد يرفع من شأنهن الاجتماعي، ويحقق لهن - في كثير من الأحيان- مزيدًا من الرقيّ، والتمسك بالقيم الأخلاقية. [د.عدنان باحارث: ملف التربية العلمية للفتاة / موقع باحارث على شبكة الإنترنت].
والإسلام دين العلم..!
فقد جاء بالدعوة إلى العلم فكان أول ما نزل من القرآن الكريم آيات مبيّنات تدعو إلى القراءة والكتابة والتعلم، قال تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1 - 5]} وبين النبي صلى الله عليه وسلم أنه طريق واضح إلى الفوز في الآخرة بالجنة، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللهُ لَهُ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [حَدِيثٌ حَسَنٌ رواه الترمذي (2646)].
وأبدًا لم يقتصر العلم على الرجال:
لم يفرق الإسلام في الدعوة إلى العلم بين ذكر أو أنثى، ولا بين صغير وكبير، ولا بين الأحرار والعبيد، وعلى هذا النهج القويم المنفتح سارت الأمة في تعليم النساء عمومًا، والفتيات خصوصًا، فهذه السيدة عائشة رضي الله عنها تبلغ من العلم والمعرفة ما تفوقت به على كثير من أقرانها من الرجال، وتفردت به عن سائر نساء العالمين، فقد استقلت بالفتوى وهي ابنة ثمانية عشر عامًا، ولم يكن تفوُّقها هذا ذاتيًا بغير سعي، فقد كانت شغوفة بالعلم، حريصة عليه، تُلحُّ في طلبه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى قال عنها التابعي الجليل ابن أبي مُليكة: (إن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم كانت لا تسمع شيئًا لا تعرفه إلا راجعت فيه حتى تعرفه). [حنان عطية الطوري: الدور التربوي للوالدين في تنشئة الفتاة المسلمة ج/1 :184].
بعضهن في العلم مبلغًا عظيمًا: فعلا صيت بعضهن في علم رواية الحديث النبوي، حتى ارتحل إليهن الطلاب، وتكاثروا يأخذون عنهن ما تفرَّدن به من الرواية، وربما وصل ببعضهن التوسع العلمي إلى أن تُوصف بست الفقهاء، أو مُسندة العصر، أو مسندة الشام، أو مسندة القاهرة، أو ست الوزراء، حتى بلغت بإحداهن المكانة العلمية ما جعل أهل الأرض ينزلون بموتها درجة في رواية صحيح البخاري.
وتعلمنّ وهنّ محجبات عفيفات:
من الشبهات التي يثيرها أعداء الإسلام أن الحجاب يعوق الفتاة عن المضيّ قدمًا في طريق العلم يربط بعضهم بين تحرير المرأة على الطريقة الغربية وبين الحصول على المعرفة العلمية والتعليم، وكأنهما متلازمان، والواقع يشهد بنقيض ذلك إلى يومنا هذا، فقد تفوق نساء السلف قاطبة بغير تبرج ولا سفور ولا اختلاط، والشواهد التاريخية كثيرة جدًا، يقول الشيخ أحمد الأمين الشنقيطي: "أما الزوايا فلا يوجـد من بينهم ذكر ولا أنثى إلا ويقرأ ويكتب، وإن وُجد في قبيلة غير ذلك فإنه نادر، بحيث لا يوجد في المائة أكثر من واحد على تقدير وجوده"، ومن المفارقات الغريبة أن نسبة الأمية في موريتانيا في عام 2000م بعد صيحات تحرير المرأة وصلت إلى 50%، والعجيب أنه شُوهد في فترة الستينات من القرن العشرين الميلادي المرأة الراقصة والمغنية والممثلة التي لا تجيد القراءة، ولا الكتابة، فاستطاعت دعوة تحرير المرأة أن تحررها من أخلاقها وقيمها في حين لم تستطع أن تحررها من جهلها وأمِّيتها...! [أحمد الأمين الشنقيطي: الوسيط في تراجم أدباء شنقيط، ص517].
ولا تزال المسلمة تتعلم حتى تفارق الحياة الدنيا..!
فعبارة: (أنهيت دراستي) عبارة ليس لها وجود في التصور الإسلامي للتعليم؛ إذ أن السعي نحو المعرفة وتحصيل العلوم النافعة في الإسلام عملية تستمر مدى الحياة دون انقطاع؛ لأنها تنطلق من الدافع الإنساني الفطري الراغب في الحصول على المعرفة، والاستزادة منها، فلا ينقطع بالمرحلة التعليمية - أيًا كانت - بل يستمر مع الإنسان مدى الحياة، وهذا الفهم تجسد في سلوك العلماء المسلمين رجالًا ونساءً.
فعن صالح بن أحمد بن حنبل أنه قال: رأى رجلٌ مع أبي محبرةً، فقال له: يا أبا عبد الله، أنت قد بلغت هذا المبلغ، وأنت إمام المسلمين؟ ـ يعني: ومعك المحبرة تحملها؟! ـ فقال:الإمام أحمد: (مع المحبرة إلى المقبرة).
وهذه الفاضلة فاطمة بنت المقرئ جمال الدين الأنصاري (ت708هـ) سمعت من مائة شيخ، وقبل موتها بيوم واحد قرأ عليها الذهبي، بل إن زينب بنت يحيى بن الشيخ عز الدين عبد السلام رحمها الله (ت735هـ) قُرئ عليها في يوم موتها أجزاء من معجم الطبراني، وهكذا دون ملل.. يستوعبن بالعلم الحياة كلها حتى آخر الأنفاس في الدنيا..!
- وابدئي بأشرف العلوم.. القرآن والسنة:
وأول العلوم ضرورةً: العلم الديني الشرعي، وليس في هذا أدنى شك، حيث تمتاز الفتاة في مرحلة الطفولة بقدرة فائقة على الحفظ والتذكر؛ وذلك لصفاء ذهنها وسرعة نمو ذكائها؛ كما أنّ الحفظ في وقت الطفولة يكون أسرع وأكثر رسوخًا من أي وقت آخر من العمر، يقول ابن خلدون: "التعليم في الصغر أشد رسوخًا، وهو أصلٌ لما بعده"، وإلى جانب القرآن والسنة تتعلم الفتاة كل علم يتفق وطبيعتها الأنثوية ولا يتناقض مع وظيفتها الأساسية، ومن ثمّ علم الأمومة وأصول التربية في مختلف متطلباتها النفسية والسلوكية، ولها بعد ذلك ميدان العلم فسيحًا تنهل من ينابيعه ما تشاء وتقدر، مما يؤهلها للقيام بدورها كمسلمة رائدة فعالة، في كل مراحل حياتها. [محمد علي قطب: فضل تربية البنات في الإسلام، ص:110].
- تشجيع الفتاة على العلم والمعرفة:
وهذا التشجيع يبدأ من الأسرة، ويبدأ في وقت مبكر جدًّا.. وذلك بتلقي أسئلة الطفلة الصغيرة بصدر رحب وعدم الضجر منها؛ فإن أسئلة الأطفال الكثيرة المتوالية هي انعكاس في نزوعهم الفطري نحو العلم والتعلم، وصدّ الطفلة عن كثرة السؤال والتطلع إلى المعرفة يعد وأدًا لرغبتها الفطرية في المعرفة، ومصادرة لحقها الفطري في التعلم.
ومن وسائل رفع مستواها العلمي أيضًا توجيه الفتاة إلى:
- الدعاء، والتضرع: قال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114]، وقال الإمام البغوي معالم التنزيل: وكان ابن مسعود رضي الله تعالى عنه إذا قرأ هذه الآية قال: (اللهمَّ ربّ زدني علمًا وإيمانًا ويقينًا(.
- تقوى الله عز وجل: فهي رأس الأمر، وميدان المعرفة الحقيقي، فإن الله بفضله وعد من اتقاه بأن يعلمه، ويفتح عليه ما أغلق، كما قال سبحانه وتعالى: {وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}، فإن العلم لا يحصل فقط بمجرَّد التعلم والجد في طلبه فحسب؛ ولكن يحصل بما يفتحه الله على الطالب التَّقي من المعارف والعلوم، فبقدر التقوى يكون الفتح من الله تعالى، وبقدر ضعفها يكون فساد العقل وضعفه، وذهاب نوره.
- رفع مستوى طموح الفتاة العلمي:
وأفضل وسيلة لرفع هذا الطموح عند الفتيات: تجنيبهن الهموم والغموم، والانفعالات والتوترات النفسية الشديدة التي تُعيق وظائف العقل، والتأكيد على حسن التوافق الاجتماعي، وسلامة علاقات الفتاة الأسرية؛ لكونهن أرغب من الذكور في التوافق الأسري، والقبول الاجتماعي.
- مراعاة طاقة الفتاة وقدراتها:
وعدم الإكثار عليها خصوصًا عند التعب أو المرض، وأثناء الدورة الشهرية التي يقلُّ فيها عادة عطاؤها العلمي فيها، وتحتاج عندها إلى قدر زائدٍ من الراحة؛ فإن الرفق بالمتعلم ضروري، وتحميله فوق طاقته مضرٌ به، فلا بأس بشيء من التجديد والترفيه المباح، يريح نفسها وقلبها وذهنها وبصرها، ويجدد نشاطها العلمي.
- توجيه الفتاة لأفضل طرق التعلم:
بتدريبها على انتهاز أفضل أوقات التحصيل للمذاكرة والمراجعة والحفظ، والتخفُّف من الملهيات والمغريات أثناء الدراسة، والتدريب على طرق التركيز، وتحديد زمن معين للاطلاع دون انفتاح لا حدَّ له، مع التأكيد على أسلوب التكرار؛ فإن ملكات التفوق لا تزدهر إلا من خلال منهج التكرار للأفعال، حتى تصبح ملكة راسخة، وصفة ثابتة.
وأخيرًا ابنتي الحبيبة.. ويا طالبة العلم النجيبة..!
كوني أسعد الناس بالعلم..!
وإنّ أسعد الناس بالعلم أكثرهم انتفاعًا به، وتطبيقًا له، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: إن الناس قد أحسنوا القول كلهم، فمن وافق فعله قوله فذاك الذي أصاب حظه، ومن خالفه فإنما يوبخ نفسه" [رواه ابن المبارك/ كتاب الزهد، ص:25].
أنشد إبراهيم بن الحسن الورّاق:
إذا أنت لم ينفعك علمك لم تجد لعلمك مخلوقًا من الناس يقبله
وإن زانك العلم الذي قد حملـــته وجدت له من يجتبيه ويحملــــه
اللهم ارزقنا علمًا نافعًا وعملًا صالحًا متقبلًا..
المراجع:
- كيف تكونين مثقفة فكرًا وعملًا وسلوكًا: د.أكرم محمد رضا.
- الدور التربوي للوالدين في تنشئة الفتاة المسلمة: حنان عطية الطوري.
- موقع د.عدنان حسن باحارث على شبكة الإنترنت.
- فضل تربية البنات في الإسلام: محمد علي قطب.
